الرمز والمسرح [1] اتّصال أم انفصال؟
د. خديجة عبدالله شهاب([2])
حين قرأت العنوان حدّثت نفسي ما الرابط بين الرمز والمسرح؟ وما العلاقة التي تجمع بينهما؟ وطرحت غير علامة استفهام؛ الأمر الذي دفعني لأسبر أغوار هذا الكتاب، وأكتشف مضامينه.
فعلى الرّغم من أنّ الكاتب لا يمتّ بصلة إلى هذا عالم المسرح – فهو باحث في التاريخ العربيّ – إلاّ أنّه مع إطلالتي السريعة على مؤلَّفاته؛ وجدته باحثًا في كلّ اتّجاهات الثقافة، وفي كلّ ما له علاقة في حياتنا الاجتماعيّة، فهو لم يكن محدود الأفق، والتطلع، ولم يضع نفسه في زاوية ثقافيّة واحدة، ما جعله متعدّد الوجهات، والاتّجاهات الثقافيّة ؛ واسع الثقافة غنيّ المعرفة، ولا يتوانى عن خوض غمار كلّ عمل أدبيّ يضيئ على جانب معيّن من جوانب الثقافة العربيّة.
يتّكئ الكاتب على مصادر، ومراجع غاية في الأهمّيّة في عالم المسرح؛ ويشير في سياق كلامه إلى أنّ تحريم المسرح هو من عند العرب، وقد جاء بعد الإسلام، وألاّ نصّ دينيًّا يدلّ إلى أنّ المسرحيّات هي من المحرّمات، أو الممنوعات.
يتابع مَهَمَّته في رصد حركة المسرح، يبني جسرًا متينًا بين القديم والحديث، ليؤكّد أهمّيّة توظيف التراث في نموّ هذا الفنّ وتطوّره، “لأنّ التراث حاضرٌ دائم في وجدان النّاس” على حدّ تعبير المؤلِّف، و”له تأثير قويّ، ومباشر على حياتهم، إذ إنّ تطوّر المسرح من الرّيادة الأولى للبشريّة إلى اليوم جعل القلوب والعقول تهوى هذا الفنّ النبيل في بناء الإنسان والمجتمع، ومناقشة كلّ الموضوعات التّاريخيّة… والمعاصرة…”([3])
في الباب الثاني من الكتاب يتحدّث الكاتب عن مسرح مفتوح “وفي الفضاءات المكشوفة لتجسيد بطولات الرمز الإنسانيّ التّوّاق إلى الحرّيّة، والمدافع عن الحقوق والعدل”([4])، ويعود إلى واقعة كربلاء، ليشير إلى دورها عبر التّاريخ في تعزيز دور المسرح، في التواصل المباشر مع النّاس، وتعرفهم الطغيان الذي تعرّض له الإمام وأهل بيته، والأساليب التي نهض بها شهداء كربلاء لمحاربة الظلم الذي لحق بهم، والثورة على الفساد ؛ وذلك لإحقاق الحقّ والعدالة، وهم في كلّ ذلك رمز للدفاع عن الحقوق المسلوبة، والكرامة المهدورة. في مكان آخر من الدّراسة يشير الباحث إلى أنّ هذه الواقعة هي ملحمة خالدة، أسّست لفنّ المسرح وذلك لما تحمله من دعائم هذا الفنّ وأسّسه، كما أنّها رسّخت قِيمًا قال بها الإسلام، وأهل بيت النّبيّ، وبيّنت كيف أنّ الحقّ يبقى ويُخلّد. ويستشهد بالعديد من الأقوال والآراء للعديد من المفكّرين العرب والمسلمين؛ وعلى سبيل المثال لا الحصر ما قال به الكاتب “أنطوان بار”: “لو كان الحسين عندنا لفتحنا العالم باسمه”، وما قاله الزعيم الصّيني مخاطبًا الرئيس الفلسطينيّ الراحل ياسر عرفات: “… عد إلى وطنك فعندكم أيّها العرب الثورة الحسينيّة فتعلم منها”، وغير ذلك الكثير ممّا لا يسع في هذه العجالة الإلمام به، وكلّ ذلك ليؤكّد أنّ الثورة الحسينيّة كانت ثورة متفرّدة من غيرها من الثورات، وقد غيّرت وجه العالم.
يرى “صباح” أنّ للمرأة دورًا مسرحيًّا كبيرًا، في الوقت الّذي حجب المسرح الحديث عنها دورها في هذا الفنّ، ولم تدخل إليه إلا مؤخّرًا، والأعمال المسرحية التي كانت تتطلب دورًا نسائيًا كان الرّجل يؤدي هذا الدّور، ما يعني أنّ الإسلام كان متقدِّمًا في هذا المضمار.
يميّز الكاتب في سياق الموروث الحضاريّ، والثقافيّ، والدّينيّ بين نوعين من المسرح: أحدهما الهادف الجادّ، وثانيهما المسرح غير المسؤول الّذي يسوّق للرذيلة، والفحش، والفجور، ويحسب أنّ النوع الأوّل تقوم على أكتافه “المسؤوليّة الحضاريّة والثقافيّة… في توصيل الأفكار، والرؤى والطروحات الجادة”([5])، وهو بالتالي مسرح لا غنى عنه في بناء الثقافة المجتمعيّة. أمّا النوع الثاني فهو مغاير للأوّل، ويساهم في إشاعة “الرذيلة، والعهر، ويمارس لعبة الضحك على الذقون”([6])، ويروح يعرض لنماذج من المسرح الجادّ، حيث نجحت التجارب العراقيّة، واللبنانيّة، والإيرانيّة، وبعض المسرحيّات الجادّة في مصر في الرّد على المنتقدين لهذا النوع من المسرحيّات. يبيّن أثر هذا المسرح على التربية الصحيحة التي تستمدّها المجتمعات المسلمة من الدّين الحنيف حيث تؤسّس هذه الأعمال لمجتمع متماسك متجانس في ما بينه.
وفي هذا السياق يسلّط الضوء على المسارح العاشورائيّة المتنقّلة في المدن العراقيّة ، وقد نجح العراقيّون في التأسيس للمؤتمر الحسينيّ، وفي إصدار مجلّة نصف سنويّة تُعنى بنشر هذه القضيّة، وهذا أحد أهدافها الذي تحقّق في سبيل خدمة عاشوراء. وهو إذ يرى أنّ في ذلك تصحيح للمسار “للمصالحة مع النّفس بعد أكثر من ثلاثة عقود لترويج الأطروحات الهدّامة”([7]) ومعه نؤسّس لمسرح إسلاميّ ينظر إليه العالم باحترام لصدق طروحاته.
يشير إلى أنّ العمل المسرحيّ الإسلاميّ جادّ، ورصين كغيره من المسارح العالميّة التي تأخذ على عاتقها النهوض بالمجتمعات من كبوتها الحضاريّة والثقافيّة، وهو بالتالي يؤسّس لجيل يعمل على تطوير هذا الفنّ، وقد أُدرج في المناهج الرّسميّة للثانويّات في العراق، أضف إليها تدريبهم على كتابة النّصوص المسرحيّة الجادّة، ويركّز على أنّ هذا المسرح يتنقّل بين المناطق العراقيّة، وبلغات ولهجات متعدّدة، وحضره ممثلو الدّول الأجنبيّة، والعربيّة، ومنهم القنصل الفرنسيّ، الّذي أبدى إعجابه بهذه المبادرة، وقد رأى الكاتب أنّ هذه المسرحيات قد بدأت تأخذ مكانها في الوصول إلى العالميّة.
يسهب المؤلِّف في الحديث عن إنجازات رابطة الغدير الإسلاميّة الفاعلة والمؤثّرة في المسرح العراقيّ، وقد ألّفت العديد من المسرحيّات الجادّة التي تعرض لواقعة الطّفّ، وعرضتها على المسارح العراقيّة المنتشرة على مساحة الوطن، كما عُرضت على المسارح في إيران حيث الأرض الخِصبة لاحتضان هذا النوع من المسرح الإسلاميّ.
بيّنَ لنا تفاعل الجمهور الإسلاميّ معها، وهي إذ تعرض لحِقبة تاريخيّة على صلة وثيقة بحياته الاجتماعيّة، والتأثّر بها بدا واضحًا على الجمهور حيث أبدى تفاعلاً نادرًا، كما أفصح عن العديد من الدّراسات التي تناولت المشهديّة المؤلمة إذ أُفردت أبحاث مطوّلة للحديث عن الألوان، ورموزها، ودلالاتها، وتأثيرها على العين، والموسيقى التي ترافق العمل المسرحيّ، وتأثيرها على الأذن، والممثّل الذي يؤدّي بإحساس، والدّيكور الذّي يوحي بأجواء العمل، ويمّهد له بالشكل العامّ. ويخلص إلى القول إنّ العمل المسرحيّ ليس كتابة النصّ فقط، إنّما هو كلّ ما تقدّم الحديث به مجتمعًا.
وينقل الكاتب عن الأديب العراقيّ “رضا خفاجيّ” الّذي كتب مسرحيّة تجسّد واقعة الطّفّ، مع التركيز على الأطفال الّذين شاهدوا أفظع الأحداث وأكثرها إيلامًا، ويرى أنّ الأطفال لم يعيشوا كما كلّ أطفال العالم، بل عانوا ما عاناه أهلهم من الظلم والقسوة، ويرى “صباح” أنّ “رضا الخفاجيّ” كان مؤثّرًا في تسليط الضوء على هذه النّاحية من الواقعة، التي تحمل في طيّاتها كلّ القِيم على المستويات الإنسانيّة، والاجتماعية، والسياسية كافّة، ويإمكانها أن تكون لنا كمسلمين عِبرة نستلهم منها قِيم الحقّ والعدالة، وعَبرة على ما جرى لأهل بيت النّبيّ من انتهاك الكرامة والحياة.
ما تقدّم الحديث به، يحدو بالكاتب إلى الحيث عن ضرورة العمل، والجدّ لتأليف فيلم سينمائيّ يرفد المسرح الإسلاميّ في دوره، وعلى ضرورة أن تُترجم هذه الأعمال إلى غير لغة من لغات العالم، ليتعرّف الناس شخصيّة الإمام الحسين ومظلوميّته، إذ إنّ التّاريخ الإسلاميّ على حدّ قوله مليء بالعِبر، ويجب أنّ نعمم الفائدة منها على العالم أجمع؛ وعلينا أن نعمل على الخطّ الموازي للإسلام “فوبيا”؛ إذ يعمل الغرب على تشويه صورة الإسلام في مقابل ذلك علينا أن نقدّم الصورة الصحيحة لإسلامنا ليرى المجتمع الدّوليّ كم أنّ الأسلام يحمل في طيّاته طروحات، ومفاهيم تحفظ كرامة الإنسان وحقّه. إذًا دور المسرح والسينما كبير ومهمّ في هذا السياق؛ إذ “تتطلّب هذه المرحلة بالذات جهدًا كبيرًا لخلق مسرح”([8])… خاصّ يبتعد من كلّ التقليد الّذي يحاول الاستمرار بتعريف المسرح “بكونه فضاء صغيرًا يستعمل تَقنيّات متعدّدة لاختصار فضاء الحياة الكبير”([9])، وذلك من خلال التأسيس لمرحلة تجريبيّة جديدة تحاكي الوعي العاديّ والنخبويّ لدى العالم أجمع. يتبنى الكاتب في مكان آخر من الكتاب آراء المسرحيّين، والكتّاب العراقيّين، والعرب، وذلك من خلال تأثير الممثّل في تجسيد الشخصيّة المسرحيّة التي يؤدّيها، حتّى إنّ د. عالية على ما يذكر، ويستشهد به تقول: “إنّ الشخصيّة الدّراميّة توازي أهمّيّة الحدث لأنّها هي الّتي تجسّد العقدة، والحبكة، والموضوع المراد إيصاله”([10])، وهنا نصل معه إلى استخدام المكان الرّمز ما يشير إلى أنّ الحدث ينحو إلى الرؤية المعاصرة.
يدّل الكاتب في هذا السياق إلى أهمّيّة التكنولوجيا، وضرورة تسخيرها لخدمة التّاريخ الإنسانيّ، ومفاصل حياته الكبرى؛ إذ حين تُعرض الأحداث كمسرحيّات، أو أفلام سينمائيّة، أو مسلسلات تلفزيونيّة؛ فإنّها تزيد من وعي الإنسان بتاريخه، وقد أصبح “ذا جدوى أكبر من ناحية التأثير والتّلقّي”([11])، وهنا يغوص في عمليّة المسرحة ويُعدّد العناصر التي تقوم عليها المسرحيّة حيث إنّ لكلّ واحد منها دوره في إنجاح العمل أو فشله.
إذًا؛ يدور الكاتب في فلك واقعة الطفّ ليربط بين الرمز والمسرح حيث إنّ أهل البيت الّذين تعرضوا لكلّ هذا الاضطهاد هم الرمز الذّي على أساسه يجب أن نبني مسرحنا الإسلاميّ، وهم المُلهِم لمعظم شعراء المسلمين من العرب، وغيرهم من غير العرب، وكذلك الأمر بالنسبة إلى كتّابه؛ وهو إذ يعرض لفضل الكُتَّاب المغاربة في التأسيس لمسرح إسلاميّ، حيث يعرّج على تعداد أنواع المسرح من الحكواتيّ إلى الرومانتيكيّ والواقعيّ، ومسرح برخت، والتجاريّ، والصامت… وغير ذلك الكثير.
يقفل الباحث عمله على أنّ الهدف من المسرح الإسلاميّ هو “تحرير الإنسان المسلم من العبثيّة، والفوضى، والعصيان، والحيرة، والعزلة، وتطهيره ذهنيًّا، ووجدانيًّا، وأخلاقيًّا، وحضاريًّا”([12])، ولعلّ ما تناوله الكاتب في عمله يوافق مجتمعًا إسلاميًّا عربيًّا، ولا يوافق مجتمعًا آخر بعيد هو في أفكاره، ومنظومته الفكريّة، والعقائديّة بعض الشيء عن الدّين الإسلاميّ لكن بالتأكيد إنّ الأديان تتلاقى عند حدود احترام الإنسان في حياته، وحقوقه، وكرامته.
لقد وُفق صباح كاظم في طرحه، وهو يعدنا بأجزاء أخرى لهذا الكتاب، ونحن كلّنا أمل أن يحمل في طيّاته مفاتيح جديدة عن عالم المسرح الإسلاميّ الذي يجهل معظمنا دوره وأهمّيّته.
[1] – لمؤلّفه صباح محسن كاظم باحث وناقد عراقيّ صدر له العديد من الكتب والدراسات والأبحاث؛ وله العديد من المقابلات التلفزيونيّة، يتابع دراساته العليا في الجامعة الإسلاميّة كلّيّة الآداب، قسم التاريخ.
[2] – أستاذ مساعد في الجامعة اللبنانيّة كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة الفرع الخامس.
[3] – صباح محسن كاظم: الفنّ والمسرح ج (1)، المجتبى للطباعة المحدودة، ط (1)، 2018م، ص 18.
[4] – م، ن ص 25.
[5] – الرمز والمسرح: ص 50.
[6] – م، ن ص 50.
[7] – م، ن ص 54.
[8] – الرمز والمسرح: م، س، ص 111.
[9] – م، ن ص 112.
[10] – م، ن ص 131.
[11] – م، ن ص 133.
[12] – الرمز والمسرح : ص147.