الثقافة ما بعد الحداثة
د. خديجة شهاب*
الثقافة بحسب لسان العرب تعني “الفَهِم والحَذَق”؛ وهو فعلًا ما كانت تقوم عليه ثقافتنا منذ العصر الجاهليّ إلى عصر ما قبل عصر الانحطاط، إذ كان الشاعر صوت القبيلة؛ والأديب في مرحلة متقدّمة كان نبض الأمّة ولسان حالها، أمّا اليوم فالحال تغيّر، وأصبحت ثقافتنا تنهض على الشاشة والمفتاح (كيبورد).
بات أبناؤنا يستسهلون الوصول إلى المعلومات عبر مواقع التواصل الاجتماعيّ، وأَوْلوها كلّ عنايتهم، وقد غفلوا عن أنّ المعلومات التي يصلون إليها من خلال هذه المواقع قد تكون في معظمها غير دقيقة، ويغزوها التحريف، حتّى إنّهم لم يكلّفوا أنفسهم عناء الشّكّ في ما يحصلون عليه؛ وبالتالي البحث، والتقصّي للوصول إلى اليقين، وقد كان هذا الأمر دأب علمائنا، ومفكّرينا، وديدنهم لحِقبة غير قصيرة.
الحذق عند أبنائنا اليوم انحصر في سهولة الحصول على المعلومات، وتجنّب مشقّة الانتقال إلى المكتبات العامّة لمطالعة الكتب، وتركوا جانبًا موضوعًا أكثر أهمّيّة وهو صحّة المعلومات التي بين أيديهم، ومن الذي ينقل إليهم هذه المعلومات إلى هذه الشاشة الصغيرة؟
إذًا؛ فإنّ معظم جيل اليوم أهمل الكتاب الذي يحوي الكثير عن حضارتنا، وتاريخنا، ومفكّرينا، وعلمائنا الأفذاذ، وهو يتّكئ بالكامل على الشاشة إن على المستوى السياسيّ، أو على المستوى الثقافيّ، أو الاجتماعيّ، أو الاقتصاديّ إذ أصبح العالم برمته يُدار من هناك.
أهمل بعض أبنائنا الحقائق، وساروا خلف السّراب، وما نحن فيه اليوم في مجتمعاتنا العربيّة من الانحدار الثقافيّ والتقاتل، وفي المستويات التي ما تقدّم الحديث بها هو جراء هذه الثقافة الموجّهة الفارغة من أيّ مضمون. تركوا اللباب وتمسّكوا بقشور الثقافة، فأصبح من اليسير قيادتهم من غير إرادة منهم إلى حيث تريد الحداثة.
إنّ الحداثة اليوم دفعت بأجيال كاملة نحو الأُمّيّة، وما نحصل عليه من المواقع الإلكترونيّة ليس إلاّ ثقافة واهية واهنة تنتهي مفاعليها عند أوّل محطّة لامتحان معلوماتنا. وهي ثقافة تأكيد الخطأ على المستوى الثقافيّ وانتشاره بين الناس، ثقافة اللاعودة إلى العقول لتُخضِع المعلومات لقياس العقل والمنطق، وقد انتقل هذا المشهد إلى الكثير من المحافل الثقافيّة المنتشرة على امتداد الوطن، وصارت لغتنا على لسان البعض مزيج من لغات متعدّدة تشي بأنّهم أهل حضارة، وثقافة حسب زعمهم.
ولكن ما نريد قوله هنا إنّ التخلّي عن اللغة الأمّ لا يعني الحضارة أبدًا، بل لعلّه العكس تمامّا، وقد تبيّن لنا في هذه الحِقبة أنّ الثقافة خرجت عن معناها الذي أوردناه سابقًا، وفقدنا الثقة بالكثير من أهل الثقافة والعلم.
الثقافة ما بعد الحداثة في انحدار هائل نحو الحضيض، والأمّة العربيّة كذلك. ولم تحمل إلينا إلاّ القليل من الفائدة، والكثير من الخراب الذي نلمسه في كلّ لحظة من لحظات حياتنا.
وعلى الرّغم من كلّ ما تقدّم؛ لم نفقد الأمل، ولم يفت الآوان، ونحن نعوّل على النَّابهين من مثقّفينا في استعادة اللغة، والثقافة العربيّة لدورهما الذي اضطلاعنا به سابقًا شرط أن نؤمن بهُويّتنا، ولغتنا، وأنّها أمّ اللغات، وبها أنزل الله قرآننا الكريم.
رئاسة التحرير
* أستاذ مساعد في الجامعة اللبنانيّة كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة الفرع الخامس، أحد رئيسَيْ تحرير مجلّة أوراق ثقافيّة.