الحجاج في كتاب البيان والتبيين للجاحظ
د. رفيقة بن رجب*
الملخص
الأسلوب الحجاجي الذي تبناه الجاحظ يهدف إلى التأثير في المتلقّي بالأدلة والحجج والبراهين التي تقرأها في مواضع مختلفة من كتاب البيان والتّبيين.
وهذا الكتاب له مزية حجاجية خاصة بوسعها أن تشارك في بناء نظرية جديدة في المشروع الحجاجي، وتحافظ على التّوازن العام الذي بُنيت عليه العديد من القضايا ، وبَذلت جهدها للربط التكاملي بين التراث والحداثة. وهذا التقريب بينهما سوف يخرج لنا بقواعد ناجحة لاستكمال الناقص .
وبين أيدينا العديد من النصوص التي حققت المواءمة الإيجابية وساهمت في تشكيل البنية التصاعدية للنسيج الحجاجي الناجح .
وفي النهاية نستطيع أن نقول وبكل ثقة : إن الجاحظ قد رفع طاقم الخَطاب الحجاجي حتى أصبح مثلا يحتذى به على مرّ الأزمان .
The aim of the affirmation style adopted by Aljahidh is is to influence .
the reader (recipient) by providing proof and evidence found in various parts of his book Albayan wat tabyeen.
This book has a distinctive affirmation style that can contribute to a new theory and maintain a general balance for many cases that tried to bind modernity and heritage. This binding will generate new affirmation rules that will complete missing links.
We have in our possession many texts that have given rise to to a positive affirmation and contributed to the formation of an ascending structure that weaves affirmation.
We can confidently say that Aljahidh has championed the affirmation discourse to become an exemplar throughout the ages.
المقدّمة
لا شك أنّ قراءة التّراث واستنطاقه وتفحصه والوقوف عند جزئياته، ضرورة تستدعيها عملية المتابعة والإحياء لمؤلفات قديمة تركت بصماتها الفاعلة على عوالم الثقافة والمعرفة.
إذ إنّ هناك العديد من المسائل المطروحة تحتاج إلى إيضاح، وبما أنّ صاحبها قد أصبح غير ماثل في حياتنا؛ لفك الرّموز المبهمة فليس أمامنا إلا وضعه في طور الدِّراسة والاهتمام؛ للوصول إليه من خلال قضايا حجاجية مهمة، الأمر الّذي يتطلب منا الغوص في أعماق النصوص؛ لتفحص التأويلات والمرجعيّات المتباينة لحلّ بعض القضايا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
** أستاذة النقد والبلاغة الجامعة الأهليّة مملكة البحرين.
التّراثيّة. إنّ االدّراسات المتنوعة، تفتح أبواب المعرفة على مصراعيها، وتجعل بعض المسائل المقتبسة والغامضة شفافة على أرض الواقع، قابلة للنقاش والتداول والجدال الإيجابي حول مادة أي كتاب، وهذا لاشكّ سوف يزيل الإبهام عنه، وعن مادته متى ما كانت المحاولات والمحاورات جادة وعميقة.
إنّ إحياء التّراث الذي مرت عليه آلاف السنين يعني توظيف نصوصه واستثمارها ، بما تطرحه من مسائل ومشكلات وتصورات في سياقات متعددة، بمناهج فكرية ونقديّة متنوعة، موسومة بالتّنوع والاختلاف حينًا والتوافق حينًا آخر، وهذا كلّه في اعتقادي يغني التّراث ويجعله حيًا ناطقًا متداولاً بشكل مستمر؛ لأنّ الإضاءات المتوهّجة، والفضاءات المفتوحة تولّد قضايا جديدة على الدّوام وتزيد من مساحات الرؤيا.
وهذا كلّه يجعلنا نلتفت وبقوة إلى الجاحظ وبالذّات إلى كتابه البيان والتبين لما يتميّز به هذا المؤلف من مزية حجاجية خاصة بوسعها أن تؤطر لبناء نظريات جديدة في الحجاج، وتحافظ على التّوازن العام الذي تؤسس عليه العديد من القضايا الحجاجية وتسعى جهدها إلى الربط التّكاملي بين التّراث والحداثة، وهذا التّقريب بينهما سوف يخرج بقواعد ناجحة ؛ لاستكمال النّاقص وها هو كتاب البيان والتّبين أمام أيدينا ونصوصه ماثلة أمامنا؛ لاستقرائها والتّعرف على حجاجيتها من خلال ما سطّره الجاحظ وبذل فيه جهدًا ملحوظًا ومميزًا لدى جميع الأجيال والحِقب الزّمنية. خاصة وإنّه “وبشهادة القدماء والمحدثين هو من أهم مؤلفات الجاحظ الأدبية ، وأكثرها تداولا بين النقاد والعلماء بالشعر وأبعدها صيتًا…وقد عَدُّوه من أمّات الأدب وعيونه، لم يغفلوا عن المنزع الفنّيّ الطّاغي على الكتاب، وحِرْص المؤلف على استقصاء سبل القول ، وتصاريف اللغة ؛لإكتشاف سر صناعة الكلام.”[1]
وفي هذا السياق يقول الجاحظ “البيان اسم جامع لكل شيء كشف لك قناع المعنى، وهتك الحجاب دون الضمير”[2].
ويقول أيضاً “مدار الأمر والغاية التي يجري القائل والسّامع، إنما هو الفهم والإفهام”[3] وفي موضع آخر يقول: “بأي شيء بلغت الإفهام وأوضحت عن المعنى فذلك هو البيان”[4].
ترى ماذا يعني كشف القناع؟ وما معنى الفهم والإفهام ؟؟
من خلال ما تقدم نرى إن الجاحظ أسس مكونات الخطاب البياني، ووصل وظيفة البيان بالنّسق المعرفي والنّسق الإقناعي، هذا من جانب ، ومن جانب آخر توضح لدينا مفهوم البيان عنده بالنّسق الإجرائي على حدّ قول محمد العمري “إن مفهوم البيان عند الجاحظ مفهوم إجرائي؛ أي أنه العملية الموصلة إلى الفهم والإفهام في حالة اشتعالها”[5]
ويرى بدوي طبانة “إن ذكر الجاحظ الإفهام ، واعتباره إياه غاية البيان في أول الأمر؛إنّما أوقعه فيه رغبته في إحصاء وسائل الإفهام ،أما غاية البيان الحقيقية فهي مايستفاد من ذكره أخيراً من التّأنق في رسم الصورة ، وإبراز الفكرة الأدبيّة مصطبغة بالصّبغة الفنيّة .”[6]
إذًا البيان يتطلب من صاحبه جهداً معززاً بالأدلة و البراهين التي تودي به إلى الإقناع والإذعان.
و” لحمادي صمود” رأي مخالف لبعض الآراء حيث يقول :”إن هذا المعنى يهتم بالغايات لا بالوسائل، ويتحدد بالوظيفة لا بالبنية أو الشّكل ، مما جعله خلوًا من كل أبعاد فنيّة وبلاغيّة .”[7]
والذي يهمنا من ذلك كله أن الجاحظ يركز على الخطاب، ويبدأ بأرشفة المعرفة البلاغيّة متصدّياً للخطابات الموازنة للثقافة العربيّة، ويقتحم الأسوار بمساجلة الشّعوبين، ونقض كلامهم بالحجاج. في حين أنّه ومن جانب آخر يدافع عن فرقة المعتزلة وعن مشروعهم السّياسي والإيديولوجي والبلاغي معتمداً على محاجة الخصوم الذين يناهضونهم.
وإن كان بدوي طبانة يرى أن الجاحظ في رأيه هذا لا يخلو من مغالاة إذ يقول :”وليس يخفى ما في هذا الكلام من آثار العصبيّة والمغالاة في تفضيل العرب على غيرهم . وإذا كان الشّعوبيون وأهل التّسوية قد تعصبوا على العرب ، وسلبوهم مواهبهم، فلم يكن الجاحظ أقل منهم ميلا مع الهوى وإسرافا في التعصب لمن نصّب نفسه للدّفاع عنهم .”[8]
فجاء كتاب البيان والتبين ؛ ليبرز وبوضوح أنساق البلاغة المعرفية وخصوصيتها الأيديولوجية والثقافية؛ ليؤكد على محصلتهم الحضاريّة ويرسخ ثقافة الحِجاج لديهم لحمايتهم وإثبات قدراتهم على المواجهة والإقناع، وبهذا أصبح المشروع الجاحظي بأبعاده الحِجاجية المختلفة عند الجاحظ قيد الإنجاز.
وأطراف العملية الحِجاجية عنده تتمحور حول ثلاثة أنساق أساسية وهي :الخطيب واللغة والمتلقي، فالخطيب الكفء الذي يتسلح بآليات ألحَّ عليها كالمظهر الخارجي، واستخدام العصا، والتلويح والإشارات، والإيماءات، والأداء النّطقي، والتّشادق بسعة الفم ” وكانوا يمدحون الجهير الصوت، ويذمون الضئيل الصوت، ولذلك تشادقوا في الكلام ومدحوا سعة الفم، وذموا صغر الفم”[9]
تُـرى! هل هذا الخطيب الذي يشير إليه الجاحظ قادر على امتلاك ناصية الكلام؟ وهل هو قادر أيضاً وبما يحمله من مخزون علميّ وثقافيّ ومعرفيّ على إقناع الآخر؟ وهذا كلّه يرتبط ويتتابع مع المحور الثاني وهو اللغة أي القدرة اللغوية، فالخطيب لن يتمكن من الحصول على ما يطمح إليه إلا إذا كانت لديه محصلة لغوية تساعده على إنجاز ما يريد؛ لأن تلك الكفاءة سوف تجعله يتفاعل مع المتلقين بشكل إيجابي وفاعل والعكس هو الصّحيح.
أما المقولة الحِجاجيه الثّانية فإنّها تركز على العلاقة بين أقدار المستمعين وأقدار الحالات حيث يقول الجاحظ : “ينبغي للمتكلم أن يعرف أقدار المعاني، ويوازن بينها وبين أقدار المستمعين وبين أقدار الحالات”. [10]وهنا يشير إلى المقام الخطابيّ ويؤكد من خلاله على أمرين :
الأمر الأول: أقدار المستمعين أي مستواهم الاجتماعي والثّقافي والدّينيّ والسّياسي والطبقة التي ينتمون إليها، والفئة التي يصنفون من خلالها. والخطيب بالتالي يسخر طاقاته الإبداعيّة والفكريّة والحِجاجية انطلاقاً من هذه المحاور الطبقيّة أي طبقة المتلقين، واستراتيجية الإقناع تتفجر من هذا التناغم. “وبيرلمان نفسه لم تفته هذه الملاحظة، فعلى الخطيب، في نظره، إذا أراد أن يكون خطابه منسجماً مع مستوى مخاطبيه أن يفهم أولاً المقام المتكلم فيه، ثم أحوال السّامعين ومستوياتهم المعرفية والإدراكيّة، لأنّ بناء الحِجاج مرتبط أساساً بتنوع المعنينين به”.[11]
وهنا تعزيز لمقدار الطاقة التي يحملها معه المتلقي؛ لأن المتلقي هو المقصود من كل هذا الخطاب فإن كان البون شاسعاً بين الخطيب وبينه سقط الخطاب وأصبح لازم الفائدة.
الأمر الثاني: أقدار الحالات وهذه الأقدار لها تواصل مباشر مع مناسبة الخطبة، واختلاف منطق وأسلوب الخطيب باختلاف تلك المناسبات وهذا ربط مباشر بين وظيفة البيان ببعديها المعرفيّ والإقناعيّ بالموضوع والمناسبة.
إذًا؛ المستمع أو المتلقي هنا هو هدف العمليّة التّواصليّة وأساسها في منظومة عريضة لا تكتمل حلقاتها إلا به ومعه، والعلاقة بين المتلقي والباعث علاقة محاطة بسياج من النصح والإرشاد والتنبيه إلى المزالق التي تفترض الجانب السلوكي، ومراعاة مستوى المتلقي يؤثر وبقوة على النمط الحِجاجي بين الطرفين إذ لا ينبغي أن نكلم “سيدالأمة بكلام الأمة، ولا الملوك بكلامة السوقة”[12]
و تتضح الفروق الطبقيّة لدى الجاحظ في الصحيفة الهندية التي ذكرها في كتابه وأسس عليها المقامات واختلافها من خلال تركيزه على الفصل بين كلام الملوك (الخاصة) وكلام السوقة (العامة)، فالكلام بإبعاده التواصلية المختلفة يعتمدالمقامات المقصودة ، إنّها علاقة تأخذ السياق العمودي الاستعلائي الأفقي فهل يا تُرى مفهوم الجاحظ (للخاصة) له بُعْد في الموروث البلاغيّ، أم هو تحول متوقع في الأنساق الثّقافيّة ذات الأبعاد المتباينة؟
يبدو أن الجاحظ هنا يؤكد على ما يسمى بمفهوم المجتمع للنّخبة ومرجعياتها الحِجاجية وفقًا للمصنفات التّاريخيّة، واضعًا حدًا فاصلاً بين العامة والخاصة، وكأنّه يجعل بينهما سداً منيعًا من القطيعة المعرفيّة التي لا يمكن تجاهلها بأيّ حال من الأحوال، فالفكرة الحِجاجية المسيطرة عليه في هذا العنصر هي التأكيد على التركيبة الطبقيّة ” وكلام الناس في طبقات كما أن الناس أنفسهم في طبقات”[13].
ويصل إلى ذروة الطبقيّة عندما يفصل بين الطبقتين فصلاً أيديولوجيًا خطيرًا فيقول: “ومتى سمعت – حفظك الله – بنادرة من كلام الأعراب، فإياك أن تحكيها إلا مع أعرابها ومخارج ألفاظها، فإنّك إنْ غيرتها بأن تلحن في إعرابها، أو أخرجتها مخارج كلام المولدين والبلديين، خرجت من تلك الحكاية وعليك فضل كبير، وكذلك إذا سمعت بنادرة من نوادر العوام، ومُلْحة من ملح الحشوة والطعام، فإياك أن تستعمل فيها الأعراب أو تتخير فيها لفظًا حسنًا أو تجعل لها من فِيكَ مخرجًا سريًا، فإنّ ذلك يفسد الإقناع بها، ويخرجها من صورتها”[14] وهنا نلمح تأكيده على التّقنيات الخطابيّة المتداخلة والمتلاحمة. ومن هنا أصبح / الخطيب عبر هذه التّحولات أكثر صعوبة، وأوسع نطاقاً ؛ لأنّ طموحات المتلقي ما عادت ضيقة ومداركه زادت تألقاً ونضوجاً فما عاد يقنع بالخطابة السّاذجة البسيطة ” فالمقام الخطابيّ قد اتسع والمخاطبون (المعنيون) قد اتسعت دوائرهم وتفرعت ظروفهم، وتعددت القيم المشكلة لوعيهم” [15] ومن هنا أصبح هذا المتلقي يبحث عن الخطيب لجمهوره بما يقدمه من أدلة دامغة، وبراهين قوية ؛لأنّ الإقناع ينبثق من الضوء الفكريّ الشّديد اللمعان؛ ليحطم جميع العوائق والفرضيّات والتّحديات؛ ويسعى جهده لتأطير كلامه؛ ليكون ملائماً للمتلقين متماهياً مع طموحاتهم؛ ليتحقق التّفاعل بين الطرفين خطيب مفوه ومتلقٍ حاذق، وكلا الطّرفين قادر على الحواريّة النّاجمة من الحِجاج المدروس المتفاعل مع المقام المطروح من دون القفز إلى دوائر الإنفعال الحماسي الذي ربما ينعكس سلبياً على المتحاورين.
والجاحظ كخطيب يعكس تواتر بعض الصيغ ذات النّمط المعرفي البارز الخطوط – والذي تَغْلب عليه الصِيغ التّعليميّة الواضحة المعالم مثل: ” وأنا أقول: أنّه ليس في الأرض كلام هو أمتع ولا آنق، ولا ألذ في الأسماع،ولا أشدّ اتصالًا بالعقول السليمة، ولا أفتق للسان، وأجود تقويمًا للبيان، من طول استماع حديث الأعراب العقلاء الفصحاء… ” [16]وفي موضع تعليمي آخر تبرز فيه صيغ التّوجيه الإلزامي يقول ” ومتى سمعت – حفظك الله – بنادرة من كلام الأعراب، فإياك أن تحيكها إلا مع إعرابها ومخارج ألفاظها” [17] ويضاف إلى ذلك الخطاب التقريري المباشر في قوله: ” ثم اعلم أن أقبح اللحن لحن أصحاب التّقعير والتّعقيب …” [18] ” فاذكر هذا الباب ولا تنسه، ولا تفرط فيه”[19] “وليكن كلامك ما بين المقصر والغالي، فإنّك تسلم من المحنة عند العلماء، ومن فتنة الشيطان”[20].
ونلمح من خلال تلك العلاقة الحِجاجية بين الخطيب والمخاطب ما هو قريب من الرمز المؤطر بالميسم العاطفي المضمن لتلك المواضع، على الرغم مما عرفناه من صرامة الجاحظ المنهجيّة وما هو بعيد ، كتأكيده على الحِجة الفعليّة في بعض عباراته المكتنزة بالمنهج المنطقيّ الذي يقصد من ورائه إلى معالجة المسائل الفلسفيّة والعلميّة.
والأسلوب الحِجاجي الذي تبناه الجاحظ يهدف إلى التّأثير في المتلقيّ بالأدلة والحجج والبراهين التي تقرأها في مواضع مختلفة من كتابه البيان والتبين. وتعمقنا في قراءة هذه المدونة تجعلنا نقرَّ بأن البلاغة المطروحة في ثناياها بلاغة تفسيريّة حجاجيّة فلسفيّة وإن كانت لا تخلو أحيانًا من بعض المضامين الوجدانية المتناثرة.
ومناسبة المقال للمقال الذي نص عليها الجاحظ من خلال صحيفة بشر بن المعتمر وما يجب لكلِّ مقام من المقال يقتضي مراعاة الانسجام الكليّ بين مضمون أيّ خطاب موجه إلى الناس بمضامينه الفكريّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وبين الشكل العام لهذا الخطاب، يتخللها الطّرح المدروس بشفافية مؤطرة بمخزون بلاغي واسع الآفاق، يتسع لكل استراتيجيات الحجاج في مجال القول الشفاهي، فمادامت اللغة تحقق الخطط القولية الدالة ، فإنّها ستصل إلى آذان المتلقي بأريحية عالية المستوى.
وسوف تظل جدلية العلاقة بين الخطيب والمخاطب قائمة متجددة بتجدد الزمان، وتطور الأذهان؛ لأنّهما في هذه الجدليّه أمام نسق ثقافي مفتوح، وسوف تظل الديناميكية بين الطرفين فاعلة مادامت تكتسب شرعيتها من خلال الجهود المبذولة من الخطيب أولاً وهو الذي يحاول وبتحدٍ ملحوظ توثيق مقولاته بالمستوى الذي يكون عليه المخاطب وقراءاته التّأويليّة عبر مستوى الخطابة.
والخطيب الواعي هو الذي يفتح السّاحة أمام جمهوره، فيوفر له جو الحِجاج الفاعل والنقاش المجدي؛ ليتمكنوا من التّفاعل الحضاريّ في نسق ممنهج مدرك للتقنيات الحِجاجية الفاعلة، وحتى لا يقطع الخطيب قنوات الاتصال بينه وبين المتلقيّ لا بد من قبوله للرأي الآخر ، ورده عليه بالأدلة والبراهين المقنعة، ويتصرف إزاء تلك الأطر الحِجاجية بأسلوب لأئق به كخطيب ويحول المناورة إلى أسلوب حواريّ هادف يقدم فيه فرضياته مع مراعاة تقلبات المتلقين ومعارضاتهم لأنه في هذا الفضاء الرّحب سيد الموقف والمحرك الفعليّ لجوٍّ خطابيٍّ متحضرٍ.
والمقام الخطابي الذي ألحَّ عليه الجاحظ في كلامه إنّه كان يوظف آليات الخطاب وبشكل إيجابي وهذا المقام يبرز فيه دور الخطيب من جهة والمتلقّي من جهة أخرى.
أما الخطيب فإنّ دوره في تفعيل هذا المقام سيعتمد على إداركه ووعيه بالموقف الذي وُضِع فيه، وهذا الوعيّ يبدأ بالمتلقيّ فيحاول ومنذ البداية أن يبني بينه وبين المستمعين جسوراً متينه لا يمكن تقويضها بسهولة؛ لأنّه في هذه الحالة قد أدرك المقام وجعله منسجماً مع الموضوع متماهياً فيه؛ إذ إن العلاقة بين المقال والمقام باتت من الثّوابت والأنساق الحِجاجية التي لا يمكن تجاهلها؛ لخلق مدارات ناجحة من التّواصل الإقناعي الموظف الخاضع لتصورات متبانية لتشكيل الهوية المتناغمة بينهما.
إن سلم تلك المقامات وتدرجها يساهم بشكل فعَّال في البناء الحجاجي، وما دام الأمر كذلك فإن الخطيب والمتلقي هما المعنيان بتوظيف المقام والالتزام بحدوده وقواعده ومعاييره؛ لتحقيق المعطيات المطلوبة في جو حِجاجي ممنهج. والتّواشج بين الخطيب والمستمع بات قوياً هنا معززاً بآليات الإدراك الواضح للمقام وفقاً لمقاصد الخطاب الذي يسعى جهده إلى تعزيزه ويؤكد ذلك قول الجاحظ : ” المعنى ليس يَشْرُف بأن يكون من معاني الخاصة، وكذلك ليس يتضع بأن يكون من معاني العامة، وإنّما مدار الشّرف على الصواب، وإحراز المنفعة مع موافقة الحال، وما يجب لكل مقام من مقال”[21]
في هذا القول نلمح لدى الجاحظ نوعاً من التّقارب بين الأسلوب الخطابيّ والأسلوب البلاغيّ، لأنه هنا يركز على محددات المقام وأساسياته متماهية مع النسق النّفعيّ الواضح في عبارة (إحراز المنفعة). ذّلك إن دور المخاطب في هذه القضيّة تعديل سقطات الطرح وتصويبها ؛ لتكون ملائمة مع الحوار البراجماتي. والمتلقي يتقاطع مع كل هذه الحوارات في سمت مؤطر بالفرضيات الحِجاجية والخلفيات الحضاريّة المتناغمة مع المقام الذي يركز فيه صاحبه على مخطط التواصل مع المستمعين، وعليه لابد أن تكون آليات البث لديه متوافقة مع الحال منسجمة مع المقال.
إذًا؛ الجاحظ وكما هو واضح من خلال معطياته يحيط الخطاب ببعض التّقنيات الدّقيقة ؛ لكي يجعل منه خطاباً عقليًا حِجاجياً، بل ويؤكد أنه على الخطيب اتقانها وتطبيقها ؛ لأنّ إتقان الخطيب إياها والتزامه بها تزيد من حجاجية الخطاب، وتجعله قادرًا على التّحكم في الأسس المعرفية والقدرة على استقصاء الأمور وتتبعها ؛ لمناقشتها مناقشة يحكمها العقل والفلسفة؛ لأن هذا الأنموذج هو منهج الاعتزال الذي ينسب إليه الجاحظ، ولكن هذه الفلسفة في كتاب البيان والتبيين لم تستند على الجوانب العقليّة الحِجاجيّة فحسب، بل امتزجت في عناصرها ومحاورها مع عوامل التأثير البلاغيّ أي البلاغة الحِجاجيّة القائمة على التّعليل والربط والاستنتاج واستدعاء السّابق واللاحق، هذا فضلاً عن تلاحق الأساليب المتنوعة كالإنكار والاستبعاد والدحض، والعبارات المكتنزة الغزيرة وسبر الأغوار وهذا هو أسلوب الجاحظ في كتبه التي تعلّم العقل أولاً والأدب ثانيًا على حد قول ابن العميد.
وعلى الرغم من اعتماده أسلوب الحِجاج البلاغي الواضح في كتابه البيان والتبيين إذًا؛ فقد نلاحظ أحيانًا وبقوة ميل الرّجل إلى استخدامات الألفاظ الحقيقيّة والمدلولات كما هي من دون اللجوء إلى المُجاز، إلا إن اضطر إلى ذلك؛ لأنّ المدلولات الأصليّة لديه هي لغة الحياة العامة وهي في أعلى مراتب الفكر وامتداد الثقافة.
ووظيفة الحجاج لديه تقوم دومًا على اعتماد الاقناع الذي نجده مكثفًا في مناقشاته للمسائل العامة، وبحثه عن الوسيلة المقنعة لاتخاذ أفضل الحلول للوصول إلى ترجيح أحد الآراء إن اقتنع به، أو تفنيده إن لم يقتنع به معتمدًا الأدلة الدّامغة، والحِجج المنطقيّة العقليّة التي تدحض هذا الرأي وتفنده بهدف تخطئته واستبعاده.
إذن نستطيع أن نقول في خاتمة هذا البحث : إنه كتاب محكم له قواعد خاصة به “وإن لصاحبه إحساسا واضحا بضرورة إدراك منهج محكم إحكامًا نهائيًا .”[22] “ومن المؤكد أنّ العربية لم تعرف كاتبًا فرض نفسه على عصره والعصور التالية كما عرفت في الجاحظ الذي ملأ الدنيا وشغل الناس بملكاته النادرة وما وصلها به من ذخائر الثّقافات الأجنبيّة .”[23] والجاحظ في كل ذلك رفع وبذكاء شديد طاقم الخطابة الحِجاجية حتى أصبحت مثلا يحتذى به .
المصادر والمراجع
1- بدوي طبانة /البيان العربي /بيروت لبنان /دار الثقافة 1986
2 – بدوي طبانة دراسات في نقد الأدب العربي /دار الثقافة /بيروت لبنان 1953
3 – حمادي صمود /التفكير البلاغي عند العرب /تونس منشورات الجامعة التونسية المطبعة الرسمية 1981
-4 الجاحظ /البيان والتبيين /تحقيق عبد السلام هارون / القاهرة /مكتبة مصطفى البابي الحلبي 1961
5 -شوقي ضيف /العصر العباسي الثاني /تاريخ الأدب العربي /دار المعارف القاهرة 1973
6 – عبد السلام المسدي /قراءات مع الشابي والمتنبي والجاحظ وابن خلدون /دار سعاد الصباح /القاهرة
7 – محمد سالم ولد محمد الامين /مجلة عالم الفكر /مفهوم الحجاج عند بيرلمان
8 – محمد العمري /البلاغة أصولها وامتداداتها/افريقيا الشرق /المغرب الدار البيضاء
1- حمادي صمود /التفكير البلاغي عند العرب /منشورات الجامعة التونسية 1981/السلسلة السادسة مجاد 21 /ص 153
1/552- الجاحظ /البيان والتبيين
البلاغة أصولها وامتدادها / ص191 ص 5 – محمد العمري –
6- بدوي طبانة /دراسات في نقد االأدب العربي /دار الثقافة بيروت /لبنان 1969 الطبعة الخامسة /ص 200
التفكير البلاغي عند العرب ص166 7- حمادي صمود
بدوي طبانة – البيان العربي – دار الثقافة بيروت – لبنان ص 66 8-
11- مجلة عالم الفكر (مفهوم الحجاج عن بيرلمان وتطوره في البلاغة المعاصرة ص 64) د. محمد سالم ولد محمد الأمين. المجلد 28 / العدد 3 / يناير – مارس 2000.
البيان والتبين / الجاحظ. 67:112-
البيان والتبين / الجاحظ101:1 13-
. 202ص البيان والتبين 101:114-
22- عبد السلام المسدي /قراءات /دار سعاد الصباح القاهرة ص 103
23- شوقي ضيف /العصر العباسي الثاني /تاريخ الأدب العربي /دار المعارف القاهرة ص 610